فصل: الفصل السادس والتسعون:

مساءً 8 :46
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل الخامس والتسعون:

كم تنذر الدنيا وما تسمع! وكم تؤنس محبها من وصلها ويطمع! فالعجب من فطن غره سراب يلمع.
يأتي على الناس أصباحٌ وأمساء ** وكلنا لصروف الدهر نسّاء

خسست يا دار دنيانا وربتما ** يرضى الخسيسة أوباشٌ أخساء

إذا تعطّفت يومًا كنت قاسيةً ** وإن نظرت بعين فهي شوساء

وقد نطقت بأصناف العظات لنا ** وأنت فيما يراك الناس خرساء

أين الملوك وأبناء الملوك ومن ** كانت لهم عزة في الملك قعساء

نالوا يسيرًا من اللذات وارتحلوا ** برغمهم فإذا النعماء بأساء

الدنيا دار كدر بذلك جرى القدر فإن صفا عيش لحظة ندر، ثم عاد التخليط فيذر الورود فيها كالصدر ودم قتيلها هدر.
المرء من دنياه في كلف ** ومآله فيها إلى التلف

ولكل شيء فائت خلف ** وحياتنا فوت بلا خلف

يا لاحقًا بآبائه وأمهاته لا بد أن يصير الطلا إلى مهاته، يا من جل همته شغل خياطة وطهاته يغلبه الهوى وهو غالب دهاته، إن كان لك عذر في تفريطك فهاته.
إخواني: مر الزمان وعظ الألباب ويكفي في الإنذار موت الأصحاب، كم ترى في التراب من أتراب؟ أغمدت تلك السيوف في شر قراب تناولتهم يد البلى من كف استلاب، ويحك ضياء الدنيا ضباب، وشراب الهوى سراب، أترضى أن يقال قد خاب؟ أما لهذا عندك جواب؟ كلما دخلنا من باب خرجت من باب.
للشريف الرضي:
أذكر تصاب والمشيب نقاب ** وغير الغواني للمشيب صحاب

أومل ما لا يبلغ العمر بعضه ** كان الذي بعد المشيب شباب

وطعم لبازي الموت لا شك مهجتي ** أسف على رأسي فطاف غراب

وأثقل محمول على العين ماؤها ** إذا بان أحباب وعز إياب

لله درّ أقوامٍ علموا قرب الرحيل فهيئوا آلة السفر وهونوا بالدنيا فقنعوا منها مما حضر واستوثقوا بقفل التقوى من أذى النطق والنظر؟ مالك خبر بحالهم ولا عندك منهم خبر، قاموا في الجد وقعدت وسهروا في الدجى ورقدت، طالما نصبوا في خدمة المالك، وناقشوا أنفسهم مناقشة مماحك، وآثروا بالزاد فزادوا على البرامك، واختبروا بالبلى كالتبر عن السابك، هذه طريقهم فأين السالك؟ أترضى بالتأخر عنهم؟ هذا برائك كأنك بهم وقد دخلت على الملأ الملائك، كل يا من لم يأكل هذا بذلك لما أريدوا أفيدوا لما شكروا المنعم زيدوا، ولو فتروا عن التعبد قيدوا، نام العلاء بن زياد ليلة عن ورده فجذب في نومه بناصيته وقيل له قم إلى صلاتك فما زالت الأخبار قائمة في حياته {نحنُ جعلناها تَذكِرَةً}.
قال أبو سليمان: غلبتني عيني، فإذا أنا بالحوراء قد ركضتي برجلها وهي تقول: أترقد عيناك؟ والملك يقظان؟ قال: ونمت ليلة أخرى، وإذا بها توقظني وتقول: أتنام؟ وأنا أربي لك في الخدور منذ خمسمائة عام.
للنابغة الذبياني:
أقول والنجم قد مالت أواخِرُهُ ** إلى المغيب تبينُ نظرةً حارِ

ألمحةً من سنا برق رأى بصري ** آم وجهُ نُعمٍ بَدا لي أم سنا نار

أُنبئت نُعمًا على الهجران عاتبةً ** سَقيًا ورعيًا لذاك العاتب الزاري

قلوب القوم في الدجى قلقة وأفئدتهم من الخوف محترقة والنفوس من هجر الحبيب فرقة، وجفونهم من البكاء غرقة، وعروق المحبة في سويدائهم علقة، وشفاههم بكأس المناجاة مصطحبة مغتبقة، والآمال إليه كل وقت منطلقة، وما عادت قط إلاّ وهي بالرجاء عبقة.
قل للمقيمين على وادي الحمى ** عني إذا أتيتهم مسلما

قد صار طيب العيش مذ فارقتكم ** على من بعدكم محرما

وكل شهد ذقته في وصلكم ** قد عاد من بعد الفراق علقما

لا عيش لي إن غبتم عن ناظري ** وإن حضرتم ربما وربما

إن سألوك عن سقام قد رثى ** لي فيه أهل الأرض مع أهل السما

فقل لهم ما يشتكي من سقم ** لأنه يذكر فيه المسقما

واحسرة من مضوا وخلفوه، لقد استبدل بالعسل الخل فوه، آه على عيش ولّى ولا عودة، وعلى حادٍ سرى ولا وقفة، تالله لو ضارت العين عينًا ما وفت.
للمهيار:
يا لنسيم سَحَرٍ بحاجز ** ردت به عهد الصِّبا ريح الصبا

سل من يدل الناشدين بالغضا ** على الطريق ويردّ السلبا

أراجعُ لي والمنى هلهلةٌ ** وطالعٌ نجمُ زمانٍ غَرَبا

إذا اطمأنت أضلعي تذكرتْ ** نواك فاهتزت جوىً لا طربا

تالله ما تعشق الأماكن لذاتها، بل لسابق لذاتها، لك يا منازل في القلوب منازل، للمعاهد عهد عند المعاهدة كلما تذكره الصبّ صبّ الدموع.
للمتنبي:
وما شرَقي بالماء إلاّ تذكّرا ** لماءٍ به أهل الحبيب نزولُ

وما عشتُ من بعد الأحبةِ سلوةً ** ولكنني للنائبات حَمول

أما في النجوم السائرات وغيرها ** لعيني على ضوء الصباح دليل

أعرف الناس بالطريق من قد سلك، إذا ذكرت منازل مكة حن الحاج.
للمهيار:
وإذا هبَّ صَبَا أرضكم ** حملتْ تُربَ الغضى بانًا ورندا

رُدَّ لي يومًا على وادي منى ** إن قضى الله لأمر فات ردّا

عجبًا لي كيف أبقى بعدهم ** غير أن قد خلق الإنسان جَلدا

.الفصل السادس والتسعون:

يا من قد ملكته نفسه وغلبه حسه وقد دنا حبسه وستكف خمسه ولقد أنذره جنسه، عاتب نفسك لعلها ترعوي وسلمها إلى رائض العلم عساها تستوي، أحضر دستور المحاسبة وحاسبها واندبها إلى الخير فإن أبت فاندبها.
للمصنف:
يا ويح نفسٍ رضيت بالسقم ** وفرطتْ في عمر منصرمِ

تستر باللهو وتنس حتفها ** وتؤثر البعدَ على التقدُّمِ

وكلّما أصبحت أبكي فعلها ** أضحت عنادًا لي في تبسمِ

تفرح بالفاني فما تطلب ما ** يبقى لها فمن يكون حكمي

أقول يا نفس اتقي من لم يزل ** معروفُهُ يفوقُ وكف الديم

كم من ذنوب لك قد سترها ** وعاد بالفضل وبالتكرم

وكم له من نعمة جاد بها ** وكم وكم أولاك طيب أنعم

كم واعظ في كل يوم زاجر ** وكم نذير زائر مسلم

وكم يناديك لسان عبرةٍ ** وأنت عن قول الهدى في صمم

أين الذين شيّدوا واحترسوا ** وأين من كان كثير النعم

مضى الجميع هل ترى من أثرٍ ** لهم وصاروا في بيوت الظلم

تبدلوا بالترب تربًا كلهم ** في قعر لحدٍ ضيِّقٍ منهدم

تفصلت عظامهم وحصلت ** أعمالُهم وأصبحوا كالعدم

وباشروا التراب بعد ترفٍ ** وشرف وحجب وخدم

وسرر ودرى وطرف ** وتحف وصولة وكرم

ولذة في شهوة لذيذة ** وعزة في عزمة وهمم

لو قيل قولوا ما مناكم طلبوا ** حياة يوم ليتوبوا فاعلم

ويحك يا نفسُ ألا تيقظ ** ينفع قبل أن تزلَّ قدمي

مضى الزمان في توان وهوى ** فاستدركي ما قد بقي واغتنمي

انتظري الموت سيأتي بغتة ** وأنت بين أسفٍ وندمِ

حرق وفرق وحسرة ** وفيض دمع العين في تسجم

وترحلين عن ديار إلفةٍ ** فانتبهي من رقدات النوَّمِ

من لي إذا نزلت لحدًا مظلمًا ** هذا وكم من نازلٍ لم يسلم

من لي إذا قرأت ما أمليته ** أقبح مسطور جرى بالقلم

من لي إذا أزعج قلبي حسرة ** وهل ترى يشفي بفوزي ألمي

كيف الخلاص والكتاب قد حوى ** كلَّ فعالي وجميع كلمي

يا نفس فاز الصالحون بالتقى ** فأبصروا الرشد وقلبي قد عمي

يا حسنهم والليل قد جنَّهم ** ونورُهم يفوق نورَ الأنجم

ترنَّموا في الذكر في ليلهم ** فعيشهم قد طاب بالترنُّم

قلوبهم للذكر قد تفرَّغتْ ** دموعهم كلؤلؤ منتظم

أسحارهم بهم لهم قد أشرقت ** وخلع الغفران خير القسم

سار وأوعدت عن طريق واضحٍ ** دلَّ على الرّشد دليل العلم

دعني أبكي ما حييت أبدًا ** فحق لي أبكي فلا لا تلم

يا عجبًا لك تتسمى باسم تاجر، وتخاصم على الدرهم وتشاجر، وتصابر لربح القيراط الهواجر، وتغضب لأجل الجبة وتهاجر، وترضى بأفعالك باسم فاجر، أما لك من عقلك ناه ولا زاجر؟ يا من نومه كثير وانتباهه نادر، إن دعيتَ إلى التوبة سوَّفتَها، وإن قمتَ إلى الصلاة سففتها، وإن لاح وجهُ الدنيا ترشفتها، أما هي دار بلغة لضيفها، تضيفتها أو ليس قد شبت وما عرفتها، كم بادية في أرباح غير بادية تعسفتها؟ لقد استشعرت محبتها أي والله والتحفتها، تالله لو علمت جناياتها لعفتها، أنسيت تلك الذنوب التي أسلفتها؟ آه، لبضائع عمر بذرت فيها وأتلفتها، كم تعد بالإنابة؟ وكل الوعود أخلفتها، فما تلين قناتك لغامز، ولا ترى ما تشتهي فتجاوز، ويحك، بين يديك أهوال وهزاهز، كم تقوم ولا تستوي؟ من يغير الغرائز؟ إبك لما بك، واندب في شيبك على شبابك، وتأهب لسيف المنون فقد علق الشبابك.
قد كان عمرك ميلا ** فأصبح الميل شبرا

وأصبح الشبر عقدا ** فاحفر لنفسك قبرا

عجبًا للطرف كيف اغتمض؟ ولمكلف ما أدى المفترض، يا من كلما بنى على أن يلوذ بنا نقض، يا من إذا أدى حقًا، فعلى مضض، يا من إذا لاح له صيد الفاني جد وركض، يا من إذا قدر على جيفة الهوى جثم وربض، يا مشغولًا عن الجوهر بفاني العرض إيثار ما يفنى على ما يبقى أشد المرض:
ألا يا غافلًا تحصى عليه ** من العمل الصغيرة والكبيرة

يُصاح به ويُنذَرُ كل يوم ** وقد أنسته غفلته مصيره

تأهب للرحيل فقد تدانى ** وأنذرك الرحيل أخ وجيره

وكم ذنب أتيت على بصيره ** وعينك بالذي تأتي قريره

تحاذر أن تراك هناك عين ** وإن عليك للعين البصيره

وكم من مدخل لومت فيه ** لكنت به نكالًا في العشيره

وقيت السوء والمكروه منه ** ورحت بنعمة فيه ستيره

هذا حادي الممات قد أسرع، هذه سيوف الملمات تلمع، هذه قصور الأقران بلقع، إن وصلت الدنيا فعلى نية أن تقطع، وإن بذلت فعلى عزم أن تمنع، أفيها حيلة أم في وصلها مطمع؟ يا معرقًا في البلى قل لي لمن تجمع؟ إذا خلوت وتخليت فكيف تصنع؟ أترى أنت عندنا؟ أو ما تسمع؟ يا محبوسًا في سجن هواه متى تتخلص؟ لو عرفتنا ألفتنا لنا أحباب لهم ألباب هم اللباب شغلهم على الدوام المحراب حاضرون معكم بالأبدان وبالقلوب غياب:
وشغلت عن فهم الحديث سوى ** ما كان منك فإنه شغلي

وأديم نحو محدثي نظري ** إني قد فهمت وعندكم عقلي

ما نال الصالحون ما نالوا إلا بترك ما نطلبه وما نالوا، كانت هممهم في طلب الفضائل تغلي في القلوب غليان ما في القدور، تخايل القوم لذة الثواب فسهلت عليهم مرارات الصبر وتصوروا خلود الأبدان فهان عليهم بذل النفوس، جدوا في الجد فما سكنوا حتى سكنوا الجنة، وراحة المؤمن في الدنيا صفر من راحة، فلو رأيتهم في الجنان يسرحون منطلقين في أغراضهم يمرحون لا يدرون بأي مطلوب يفرحون، أبالنجاة من النيران؟ أم بالخلود في الجنان؟ أم بالخيرات الحسان؟ أم برضى المليك الديان؟ لقد نالوا بالمراد، ما لم يكن في الحسبان، من تلمح جولان مضمر الصبر في لذيذ العافية، وفرحة المفطر بعد إنصاب الصوم وتناول العذب بعد عذاب الظما، وسلامة الغريق بعد الإغراق في أذى الأذى، وخلاص التجر من مصر ماصر المكس وتلاقي الأحباب على باب الطول بعد طول الفراق رأى من قوة قرة العين ما لا يدخل تحت قياس بعد أن حدق ياس، وقد وصفنا ما حصل للقوم وجملة المبذول من الثمن {بما صَبَرْتُمْ}.
قف بالمحصب واسأل أيها الرجل ** تلك الرسوم عن الأحباب ما فعلوا

فما أسائل عن آثارهم أحدا ** إلا أجاب غراب البين قد رحلوا